الغوص في الذاكرة

أدبية ، ثقافية، علمية، ملخصات كتب وروايات، أفضل ما قرأت من الكتب والروايات.

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

عائد إلى حيفا

 

 غسان كنفاني

ولد غسان كنفاني في عكا في التاسع من نيسان عام 1936 وعاش في حيفا حتى أيار 1948 حين اضطر بسبب الحرب التي قام على إثرها الكيان الصهيوني إلى مغادرة وطنه واللجوء مع عائلته إلى لبنان ثم ذهب على سوريا ثم انتقل إلى الكويت للعمل. استشهد العام 1972 في الثامن من تموز مع ابنة أخته في انفجار سيارة مفخخة على ايدي عملاء إسرائيليين. رغم حياته القصيرة فقد أصدر غسان كنفاني ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات في الثقافة والسياسة ونضال الشعب الفلسطيني.

 

عائد إلى حيفا

ماذا تقول الرواية:

في هذه الرواية القصيرة يرسم غسان كنفاني الوعي الجديد الذي بدأ يتبلور بعد هزيمة 1967. إنها محاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهوم العودة ومفهوم الوطن. فسعيد بطل الرواية العائد إلى مدينته حيفا والتي ترك فيها طفله يكتشف أن الإنسان في نهاية المطاف قضية وأن فلسطين ليست استعادة ذكريات بل هي صناعة للمستقبل.

 

هجوم الذكريات:

" لم تعد عليه الذاكرة شيئاً فشيئاً، بل انهالت في داخل رأسه كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءت الأمور والأحداث فجأة، وأخذت تتساقط فوق بعضها وتمل جسده. وقال لنفسه إن صفية زوجته تحس الشيء ذاته، وإنها لذلك تبكي.

منذ أن غادر سعيد رام الله في الصباح لم يكف عن الكلام ولا هي كفت. كانت الحقول تتسرب تحت نظره عبر زجاج سيارته، وكان الحر لا يطاق فقد أحس بجبهته تلتهب، تماماً كما كلان الإسفلت يشتعل تحت عجلات سيارته، وفوقه كانت الشمس، شمس حزيران الرهيب تصب قار غضبها على الأرض."

 

في الطريق:

"طوال الطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم، تحدث إلى زوجته عن كل شيء، عن الحرب وعن الهزيمة وعن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات، وعن العدو الذي وصل إلى النهر والقناة ومشارف دمشق خلال ساعات، وعن وقف اطلاق النار، والراديو، ونهب الجنود للأشياء والأثاث، ومنع التجول، وابن العم الذي في الكويت يأكله القلق، والجار الذي لمّ أغراضه وهرب، والجنود العرب الثلاثة الذين قاتلوا وحدهم يومين على تلة تقع قرب مستشفى أوغستا فكتوريا، والرجال الذين خلعوا بزاتهم وقاتلوا في شوارع القدس، والفلاح الذي أعدموه  لحظة رأوه قرب أكبر فنادق رام الله. وتحدثت زوجته عن أمور كثيرة أخرى، طوال الطريق لم يكفا عن الحديث. والآن حين وصلا إلى مدخل حيفا صمتا معاً، واكتشفا في تلك اللحظة أنهما لم يتحدثا حرفاً واحداً عن الأمر الذي جاءا من اجله! "

 

العودة:

كان يوم الثلاثين من حزيران عام 1967 بعد عشرين سنة من ترك سعيد وزوجته صفيه لشقتهما وطفلهما الصغير الذي كان في السرير من هول ما حدث، حيث هوجمت المدينة من قبل الهاجاناه وبمساعدة الاحتلال البريطاني.

" وحين كان يقود سيارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب ما تزال هناك، بصورة ما، غامضة ومثيرة ومستفزة، وبدت الوجوه قاسية ووحشية، وبعد قليل اكتشف أنه يسوق سيارته في حيفا دون أن يشعر بأن شيئاً في الشوارع قد تغير.

كان يعرفها حجراً حجراً ومفرقاً وراء مفرق، فلطالما شق تلك الطرق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946. إنه يعرفها جيداً والآن يشعر بأنه لم يتغيب عنها عشرين سنة، وهو يقود سيارته كما كان يفعل، كما لو أنه لم يكن غائباً طوال تلك السنوات المريرة."

 

الوصول:

"طوال الطريق، من رام الله إلى القدس إلى حيفا ظل يتحدث عن كل شيء، لم يكف قط عن الحديث، ولكنه حين وصل إلى أول بيت غاليم ربط الصمت لسانه وهاهو الآن في الحليصة، يسمع أصوات عجلات سيارته تسير مثلما كانت دائماً. وكان النبض الصعب لقلبه المتوثب يضيعه  بين الفينة والأخرى. لقد تضاءلت عشرون سنة من الغياب، وها هي الأمور تعود فجأة عودة لا تصدق، وراء ظهر العقل والمنطق.. تراه عما يبحث؟"

كانت صفية قد أخبرته أن لا يذهب لوحده، فهي تريد الذهاب أيضاً. كان خلدون طفلهما الذي لم يلفظ اسمه منذ زمن طويل في ذاكرتها التي لم تخبو تجاهه،  حيث تجنبا تسمية ابنهما التالي نفس الاسم بل أسمياه خالد والبنت خالدة.

 

الدخول إلى المنزل:

" وبدآ يصعدان دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضه وتفقده اتزانه: الجرس، ولا قطة الباب النحاسية، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط وصندوق الكهرباء، ...، على الباب الخشبي المغلق، المدهون حديثاً، والمغلق بإحكام."

" غيروا الجرس. وسكت قليلاً ثم تابع: والاسم طبعاً! واغتصب ابتسامة غبية، وشد يده فوق يدها واحس بها باردة ترتجف، ووراء الباب سمعا صوت خطوات تجر نفسها ببطء، وقال لنفسه: شخص عجوز بلا شك وقرقع المزلاج بصوت مكتوم، وببطء انفتح الباب."

كانت عجوزاً سمينة وقصيرة وتتحدث الإنكليزية ودخلا وهما يكتشفان المكان حيث وجدا بعض الأشياء التي تخصهما وأشياء أخرى حديثة. واعترفت لهما العجوز أنها عرفتهما، وكانت تتوقع زيارتهما مثل غيرهم من الفلسطينيين الذي عادوا ليروا بيوتهم وذكرياتهم. وقالت انها جاءت من بولونيا عام 1948 في أول آذار. وعندما سألها عن نقص ريشات ذيل الطاووس السبعة التي في المزهرية فوق الطاولة، قالت العجوز: ربما دوف حينما كان صغيراً لعب بها وأضاع اثنتين منها. وعندما تفاجأا باسم دوف قالت العجوز: لست أدري ماذا كان اسمه وإن كان يهمك الأمر فهو يشبهك كثيراً..

 

 

من هو دوف؟

كان الانتظار صعباً، وبالتالي كان حديثاً طويلاً عن ذكريات العجوز التي وصلت مع زوجها إلى فلسطين وكان بانتظارها سكن مع أجمل هدية في حياتها إذ أنها لم ترزق بأطفال فتبنت طفلاً أطلقوا عليه اسم دوف. وقد قالت العجوز أن على دوف أن يقرر بعد أن أصبح شاباً هل يريد العودة إلى والديه العربيين أو أن يبقى دوف.

كان دوف احتياطاً في الجيش الإسرائيلي والذي تربى تربية يهودية خالصة.  كان اللقاء صعباً جداً فدوف لم يعترف بأبيه وأمه اللذين تركاه وغادرا، ولا يصدق أن أماً وأباً يتركان ابنهما وهو في شهره الخامس ويهربان.

لام سعيد العجوز التي لم تشرح لخلدون ظروف تركه مثلما شرحت لهما عن ظروف القتل الذي وقع أمامها من قبل الألمان، والذي يشابهه فعل اليهود بالفلسطينيين.

 

ندم سعيد:

ندم سعيد على منع ابنه خالد من الالتحاق بالفدائيين لأنه أيقن الآن أن العودة للذكريات لن تعيد شيئاً، وخلدون الذين علموه عشرين سنة يوماً بعد يوم ، وساعة بعد ساعة، مع الأكل والشرب والفراش ليصبح دوف لن ينقلب ويعود بعد أن تمت سرقته.

" وبدا ينزل السلم محدقاً بدقة إلى كل الأشياء، وقد بدت له اقل أهمية مما كانت قبل ساعات، وغير قادرة على إثارة ايما شيء في اعماقه، ووراءه كان يسمع أصوات خطى صفية أكثر وثوقاً من قبل. وكان الطريق في الخارج خالياً تقريباً. اتجه إلى سيارته وتركها تنزلق على السفح دونما صوت، وعند المنعطف فقط أدار محركها واتجه نحو شارع الملك فيصل. وقد ظل صامتاً طوال الطريق، ولم يتلفظ بأيما شيء إلا حين وصل إلى مشارف رام الله، عندها فقط نظر إلى زوجته وقال: أرجو ان يكون خالد قد ذهب .. أثناء غيابنا!"

 

عن الكاتب

mkm

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

الإرشيف

Translate

جميع الحقوق محفوظة

الغوص في الذاكرة