الغوص في الذاكرة

أدبية ، ثقافية، علمية، ملخصات كتب وروايات، أفضل ما قرأت من الكتب والروايات.

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الكاتب السوري: سعيد حورانية

 

يعتبر سعيد حورانية ( 1927 – 1994 ) واحد من أهم المؤسسين المبدعين السوريين والعرب لفن القصة القصيرة. من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، الأعمال القصصية الكاملة. صدرت الطبعة الأولى عام 2005.

 

الغوص في الذاكرة

وفي الناس المسرة

أعلنت مجموعة سعيد حورانية الأولى ( وفي الناس المسرة ) أوائل الخمسينات من القرن العشرين، ميلاد كاتب وعالم قصصي جديد وذلك بإعلانها أن الجيل في المجتمع العربي في سورية قد بدأ الانفصال عن الجيل القديم، لكن هذا الصراع عند سعيد لم يأخذ شكل صراع أجيال بل إن هذا الصراع فهم على حقيقته صراع أفكار ورؤى وبالتحديد صراع طبقات فالصراع الفكري أحد مظاهر أو أحد أبعاد الصراع الاجتماعي.  وقد بدا هذا في قصة ( سريري الذي لا يئن) حيث ترك حامد في القصة أهله ليعيش وحيدًا:
إن الفكر الجديد، ممثل القوى الشعبية الجديدة، والتي بدأت تعي نفسها حديثًا، أي بعد الخروج العسكري والإداري للفرنسيين، إن هذا الفكر بدأ يعبر عن نفسه، وعن وضع القوى الجديدة التي يمثل: عن رفض هذه القوى للواقع، الذي هو استمرار للماضي.

 

التعبير عن الصراع الفكري:

لقد تمرد حامد على أفكار أسرته، وانفصل عنها، وعلى الرغم من مشهد الفراق العاطفي فإن حامدًا لم ينثن عن قراره، بل إن حامدًا وجد ذاته الحقيقية في انفصاله عن أسرته، أي عن نمط الأخلاق، وعن المجتمع القديمين. إن انفصال حامد لم يكن مجرد تمرد شاب، بل كان انفصالاً فكريًا طبقياً. هذا الصراع بين حامد وأهله، بين الشباب والشيوخ، بين الحاضر والماضي، بين الجديد والقديم، سوف يأخذ صورته وبعده الاجتماعي الواضح في مجموعتي سعيد حورانية التاليتين: (شتاء قاس آخر)، و (سنتان وتحترق الغابة). وفي هاته المجموعات يكتمل رسم عالم قصص جديد تمامًا، ومغاير لعالم العجيلي السابق، فإذا كان عالم العجيلي القصصي هو عالم
مجتمع - القدر، والمصادفة، والثبات، فإن عالم - مجتمع - سعيد حورانية القصصي هو عالم الكفاح والتغيير والأمل، عالم قصصي لن يدرك كنهه تمامًا إلا بالرجوع إلي مرحلة الخمسينيات، مرحلة الكفاح الاجتماعي - الوطني الفكري الذي شهدته الساحة العربية، والسورية
خصوصًا. فهذا الصراع، الذي قامت به القوى الشعبية وأفكارها، التي بدأت
تعي نفسها وقوتها حديثًا - آنذاك - تبدى جليًا في العالم القصصي لسعيد حورانية. وكما كان الصراع واضحًا على أرض الواقع، فقد كان واضحًا في أرض العالم القصصي لسعيد حورانية حيث ينتهي الصراع في هذا العالم القصصي بانتصار القوى الشعبية، ذلك أن سعيد حورانية يضيف إلى عالمه القصصي رؤيته الفكرية لحركة التاريخ: الإيمان بالإنسان والمستقبل. هذا ما
رآه الكاتب، فأضافه إلى الواقع القصصي. وبهذا فإن العالم القصصي لهذا القاص لا يقف عند حدود مرحلة الخمسينيات، بل ينفذ خارجها باتجاه المستقبل كما يراه أو يريده الكاتب، وبمثل هذا العالم القصصي نقول: إن الواقعية ليست نقلاً ميكانيكيًا للواقع. إن الواقعية هي رؤية لحركة الواقع واتجاه هذه الحركة.

 

قوى الصراع في عالم سعيد

يقوم الصراع في عالم سعيد حورانية القصصي بين قوتين تتصارعان في الطبيعة:

القوة الأولى:

تتجسد هذه القوة، في القوى المسيطرة والظالمة في المجتمع، وبكل أنواع السيطرة والظلم:
العسكر والدرك الذين ينفذون قانونًا جائرًا: الأهل الذين يمثلون قيمًا اجتماعية - أخلاقية قديمة: الإقطاعيون والحكومة والمستعمرون. وهناك البوم والغربان كرمز لهذه القوى، وإذا استخدمنا اللغة الفلسفية نقول : هناك في جانب واحد قوى الشر مجتمعة، لكنها تظهر في هذا العالم القصصي مجسدة. واقعية، بشرية.

القوة الثانية:

هي القوة النقيض للقوة الأولى والتي تتعرض لعسفها وظلمها، فتتحرك مكافحة هذا العسف. تتجسد هذه القوة في عالم سعيد حورانية القصصي عبر شخصيات الشباب الثائر على أخلاقيات الأهل، والبدوي الفقير المدافع عن شرفه، والفلاحين المدافعين عن أراضيهم، والعمال المتظاهرين والمسجونين والمناضلين ضد الاستعمار والإقطاع، تتجسد هذه القوى في الفقراء عمومًا. وكرمز، يستخدم سعيد حورانية الطيور الجميلة. فلسفيًا، يمكن تسمية هذه القوى بقوة الخير، لكنها قوى مجسدة، واقعية، بشرية، إنسانية.


الطبيعة - المكان:

من خلال الصراع بين هاتين القوتين ينبني العالم القصصي لسعيد حورانية، تمامًا مثلما ينبني العالم الواقعي من خلال الصراع بين هاتين القوتين. وإذا كانت هاتان القوتان مجسدتين بشريًا، عيانيًا، فإن الطبيعة، مكان الصراع، مجسدة أيضًا، عيانيًا، جغرافيًا. إن مكان الصراع هو الأرض التي تعيش عليها هاتان القوتان، وهو في عالم سعيد حورانية القصصي، الأرض العربية في  سورية  من السويداء إلى القامشلي، من جبال السويداء بثلوجها وأشجارها، إلى سهوب الجزيرة بوحلها، وإقطاعها، وفلاحيها. ولهذا فإن الصراع في هذا العالم القصصي يتجلى عيانيًا في حياة الناس العاديين اليومية، البطولية، في كفاح هؤلاء الأبطال ضد كل ما ومن يضطهدهم. ومن هنا فإن الصراع يأخذ في عالم سعيد حورانية القصصي شكلاً وبعدًا إنسانيًا-اجتماعيًا - فكريًا محددًا، أي أن الصراع يظهر في هذا العالم القصصي كما يبدو بالنسبة للكاتب في الواقع : صراع بين الظالم والمظلوم، صراع بين قوى تريد إدامة ذل الإنسان وبؤسه وجوعه، وبين قوة تريد رفع سيطرة وظلم القوى الأولى. تأخذ القوى الأولى في الواقع والعالم القصصي، معًا، شكل الأخلاق القديمة وعسكر الاستعمار والإقطاع والحكومة، بينما تأخذ شخصيات الشباب المتمرد - في الواقع والعالم القصصي- والثوار ضد الاستعمار والحكومة، وشخصيات العمال والفلاحين، شكل القوة الثانية، أي أن هذه هي قوة: الشعب والخير والتقدم. وإذا كان الصراع في الواقع هكذا، حقًا، فإن سعيد حورانية يضيف إليه شيئًا هامًا، هو عماد عالمه القصصي؛ إنه، كما تقدم : المستقبل، مستقبل الشعب. الإنسان . الخير.

 

الانحياز لقوة الشعب

إن سعيد حورانية لم يقتصر على أن يرى ببصره مرحلة الخمسينيات في سورية، بل رأى ببصيرته  مرحلة الصراع الإنساني  ككل، وكما يريد لها أن تكون وأن تنتهي. وبهذا كان
عالمه القصصي رؤية تاريخية قد تكون أكثر صدقًا من عوالم قصصية أخرى اقتصرت علي رؤية مرحلة زمنية معينة،  جزء من الحركة ، فعممت هذا الجزء على الكل، فكان عالمها القصصي، عالمًا كاذبًا، علي الرغم من أنه يبدو للنظرة الأولى واقعيًا، صادقًا. قد تكون هذه الرؤية  ميكانيكية  أو قل  مانوية إلى حدٍ ما، وقد تكون ساذجة، لكن ما ينقذها - فنيًا هو موهبة الكاتب وقدرته القصصية على السرد.

في محاولات سعيد حورانية، للالتصاق بالقوة الثانية، ومعانقة روحها - قوة الشعب - اضطر الكاتب، سواء في فن القصص عمومًا، أو في اللغة القصصية، للتبسيط، وللاقتراب - أحيانًا - من اللهجة العامية. أما من حيث الشكل، ككل، فقد أدخل سعيد حورانية- وربما كان من أوائل من فعل هذا- تقنية قريبة من التكنيك السينمائي، فقد استخدم سعيد حورانية، وببراعة، ما يسمى  المونتاج المتوازي  حيث يتوازى حدثان مترابطان، ليقدما حدثًا واحدًا جامعًا للحدثين، يستخلص دلالة القصة ككل (قصة قيامة العازر). كما أن سعيد حورانية استخدم أحيانًا، وبشكل واعٍ و ناضج ، عملية الترميز، حيث يجد الكاتب في رمز ما معادلاً لوضع واقعي - كما يراه - ولكن الترميز عند سعيد حورانية لا ينحل إلى مجرد علاقة - وجه شبه - بين المشبه والمشبه
به، بل إن قيمة عملية الترميز عند هذا الكاتب تكمن في أن الرمز يستخلص دلالة الواقع وأعماقه وبهذا لا يكون لرمز مصورًا أو عاكسًا  للواقع فوتوغرافيًا- بل لدلالة الواقع ومعناه وروحه، كما يرى الكاتب.


اقتباس من قصة الصندوق الذهبي

ها أنا أعود بعد أن نفضت يدي من تراب أمي. كنت أسير وئيدًا وأتلفت حوالي بحذر، ثم رفعت طرف سروالي لأمسح حذائي بجوربي لأخلص من تراب المقبرة.. كيف هربت هكذا بعد الجنازة؟

ماذا يقول الناس.؟ إلى الجحيم بأقاويلهم.. أخذت أنظر إلى بريق الحذاء بارتياح، وتذكرت أنه يجب أن أضع له ميالتين من الحديد حتى لا يبلى سريعًا؛ بينما حاولت أن أشعل سيجارة التاطلي سرت غليظة من الولاعة التي كان ينقصها الحجر، ولما ذهبت محاولاتي أدراج الرياح، أشعلتها من أحد المارة ونسيت أن أشكره.

ولقد كنت أتمثلها وهي عائدة من عملها منفوشة الشعر، لاهثة الأنفاس، تبدو يداها بيضاوين بشعتين من تأثير الماء والصابون، فتضع في يدي القرش الذي أتلقفه في لهفة مقرونة بالخجل. وحينما أحس بيديها تحتضناني وتضماني إلى صدرها، وأرى في عينيها دموعًا لم أستطع في يوم ما أن أجد لها تفسيرًا، كنت أتمنى أبقى في حضنها إلى الأبد.

عن الكاتب

mkm

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

الإرشيف

Translate

جميع الحقوق محفوظة

الغوص في الذاكرة